تبدو كثرة الحديث اليوم عن "النموذج التركي" الذي يشير إلى نهضة أحدثتها قيادة حزب العدالة والتنمية للدولة التركية عبر عشر سنوات (2001-2012) نتاجاً لتعثر نماذج التحديث العربية ووقوعها أسيرة لجدليات العلمانية والإسلام العبثية، بدأت حالة "التوركومانيا Turkomania" كما أطلق عليها البعض منذ النجاح الثاني لأردوغان وصحبه في 2007، وعزز منها شعبية الدراما التركية، وبصورة أقل الاهتمام بالحالة الثقافية التركية، ومع تفجر الربيع العربي وثوراته وانتفاضاته عاد الحديث قوياً في خضم البحث عن نموذج يتناسب في مرحلة إعادة بناء دول ونظم ما بعد الثورات، وشهدت بهذا الانتخابات الرئاسية الأخيرة في مصر التي استخدمت أطرافها المختلفة الإسلاموية والسلطوية على نحو مبتذل شعار "أردوغان مصر" ترويجاً لمرشحيها، وسبق هذا تنظيرات جادة وأخرى غير واعية عن مدى ملائمة النموذج التركي لبلدان الربيع العربي وعلى وجه التحديد مصر، وتستحضر هذه التنظيرات نجاح الأتراك في التنمية كما تركز على النجاح الديمقراطي في فك معضلة العلاقات المدنية العسكرية التي تخيم بظلها الثقيل على مستقبل النظام المصري.
غير أن لهذه الحالة جذوراً لا يبدو أن هناك وعياً كافياً بها خاصة في مصر ذات الإرث العثماني، فمثلما هناك اليومتوركومانيا، كانت هناك نزعة عثمانية قوية تعبر عنها الجامعة الإسلامية التي دشن فكرتها السيد جمال الدين الأفغاني وبشر بها وتبناها السلطان عبد الحميد الثاني وحاول أن يستعيد بها قوة وتماسك الدولة العلية في مواجهة الهجمة الاستعمارية الغربية الشرسة، وبعد فشل الثورة العرابية، التي خذلتها السلطنة العلية، بقيت هذه النزعة الإسلامية –العثمانية موجودة لدى قطاعات من النخبة المصرية السياسية، خاصة أن جزء كبيراً إن لم يكن الأكبر من أصول تركية، ورغم عدم انتمائه لهذه الأصول كان مصطفى كامل الزعيم المصري الشاب أقوى تعبيراً عنها، وقد عمل على جعلها العنوان الأكبر لنضاله.
ويغلب التناول السياسي على شخصية الزعيم المصري مصطفى كامل (1874-1908م) باعتباره زعيماً وطنيّاً أحيا أو بعث الوطنية المصرية بعد هزيمتها الكبرى باندحار الثورة العربية واحتلال بريطانيا لمصر 1882م، أو هكذا تحدث عنه عبد الرحمن الرافعي مؤرخ الوطنية المصرية وأحد أقطاب الحزب الوطني الذي أسسه مصطفى كامل. وتبقى أعماله الفكرية بعيدة عن التناول، رغم أنها تمثل الوجه الآخر لجهاد هذا الزعيم الذي كرس حياته القصيرة لخدمة قضية تحرر مصر من الاحتلال البريطاني، كما أنها تلقي الضوء على الكثير من أفكاره ورؤيته لقضية الاحتلال ورؤيته للنظام العالمي في فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى وموقع القضية المصرية من تفاعلاته، إلى جانب أنها تكمل رسم صورته باعتباره مفكراً سياسيّاً فضلاً عن كونه سياسيّاً، ويعتبر كتاب "المسألة الشرقية" الذي أصدره كامل وهو بعد في الرابعة والعشرين من عمره عام 1898م، من أهم الأعمال التي تركها إلى جانب سيرته النضالية، وهو أول أعماله الكبرى التي صدرت في حياته أو أكبرها على الإطلاق إلى جانب مقالاته وكتبه ورسائله.
ولم يكن هذا العمل التاريخي بمنبت الصلة بالجهاد السياسي الذي تزعمه مصطفى كامل، بل إنه كان إحدى وسائله للدعاية لنصرة "المسألة المصرية". وكتاب "المسألة الشرقية هو عمل تأريخي بالأساس إلا أنه لا يخلو من غرض سياسي، فقد صنفه بروح السياسي لا المؤرخ المحترف على خلفية حروب الدولة العثمانية مع اليونان عام 1897، ويدلنا الاطلاع عليه على أن الغرض الأبعد كان رسم استرتيجية دولية يوضع في إطارها الجهاد من أجل استقلال مصر وذلك من خلال التدليل التاريخي على أصالة عدواة بريطانيا دولة الاحتلال لمصر والدولة العثمانية والعالم الإسلامي، وعلى ارتباط مصر التاريخي بالدولة العثمانية، فالمسألة المصرية لم تكن إلا حلقة في ما أصبح يعرف في السياسة الدولة في القرن التاسع عشر بالمسألة الشرقية. ومن ثم لمن يكن تأريخ مصطفى كامل المفصل والمسهب لأزمات الدولة العثمانية مع الغرب هو جوهر ما كان يسمى بالمسألة الشرقية تأريخًا خاليًّا موضوعيًّا أو خاليًّا من الغرض، بل من غير المتصور أن مصطفى كامل الذي وهب حياته الشخصية والعملية من أحجل القضية المصرية كان ليكتب التاريخ لمجرد التأريخ، فهذا العمل جزء من مشروعه التحرري الأوسع.
العثمانية وكتابة التاريخ
يقول في مستهل كتابه إن الكتاب والساسة قد اتفقوا على أن المسألة الشرقية "هي مسألة النزاع القائم بين بعض دول أوروبا وبين الدولة العلية بشأن البلاد الواقعة تحت سلطاتها وبعبارة أخرى هي وجود الدولة العلية نفسها في أوروبا"، وهو يتفق على هذا المعنى للمسألة الشرقية، غير أنه بعد تحليله لتطور العلاقة بين الدولة العثمانية وغيرها من القوى الأوروبية مثل النمسا وبروسيا (ألمانيا) وفرنسا وروسيا يعيد تعريف المسألة الشرقية لتصبح هي عداوة إنجلترا للدولة العثمانية "فليس للسلطنة العثمانية وبالطبع الخلافة الإسلامية في هذه الأيام عدو يجاهر بالعدوان لها ويعمل على دك أركانها وتقويض بنيانها غير إنكلترا، ويمكن تعريف المسألة الشرقية اليوم بأنها مسألة النزاع القائم بين إنكلترا وبين بقية أوروبا بما فيها الدولة العلية. فإن معاداة إنكلترا للدولة العلية هي في الحقيقة معاداة لكل المسيحيين والمسلمين أي للعالمين الغربي والشرقي" بالطبع هذه المبالغة التي تغفل عن تحولات القوى والتحالفات بينها تنبع من رغبة مصطفى كامل في شيطنة الاحتلال البريطاني ومحاولة تصوير الإمبريالية البريطانية باعتبارها الخطر الوحيد على العالم.
ويفند مصطفى كامل الأقاويل التي تذهب إلى أن هذا الصراع صراع ديني بين الإسلام كما تمثله الدولة العلية العثمانية والمسيحية كما ترفع لواءها الدول الأوروبية، أي اعتبار المسألة الشرقية حلقة جديدة في سلسلة الحروب الصليبية القديمة بين الشرق والغرب. فيؤكد أن مسألة الدين ليست إلا الذريعة القوية التي يتداخل بها الأوروبيون في شؤون الدولة العلية "فمسألة الدين هي الآلة القوية التي يستعملها أصحاب الدسائس والغايات وأولئك الذين يثورون بدسائس أعداء الدولة إنما يثورون ضد أنفسهم ويقضون على حياتهم وسعادتهم وجنونهم واتباعهم أوامر أعداء الدولة"، ويبدو أن هذا الإدراك لحدود وطبيعة الدين في الصراع السياسي الدولي أكثر إحكاماً من هذا الإدراك الذي ساد المدرسة الإسلاموية في كتابة التاريخ وهي مدرسة متأخرة نسبيّاً، وتنتمي إلى حركة الصحوة التي يمثلها الإسلام السياسي والتي ترى أن الصراع بين الدولة العثمانية-التي أصبحت تمثل لدى أصحاب هذه المدرسة الدولة الشهيدة- وبين القوى الغربية طيلة سبعة قرون هي عمر الدولة العثمانية إنما هو حلقة طويل من الصراع الأطول بين الإسلام والمسيحية. ولكن مصطفى كامل لا يكتفي بهذا النفي فيؤكد أن الدولة العثمانية مثال التسامح الديني ولو أن دول أوروبا أنصفت قليلا لاعترفت بهذه الحقيقة الواضحة وهي "أن المسيحيين في الدولة العلية لا ينقصون عن المسيحيين في حسن المعاملة إن لم يكونوا من الراجحين".
غير أن هذا الدفاع ليس مجرد دفاع عن حقيقة أو محاولة لإثباتها وإنما هو جزء من أيديولوجية عثمانية Ottomanism أعرض يمثلها مصطفى كامل ومدرسة الحزب الوطني من بعده حتى نهاية الحرب العالمية الأولى. هذا التوجه السياسي والفكري لمصطفى كامل يقوم على حتمية الارتباط بالدولة العلية سواء كان الأمر يتعلق بالدفاع عن استقلال مصر أو غير ذلك. والدولة العثمانية لا تمثل مجرد جامعة سياسية بقدر ما هي تجسيد للقيم الإنسانية والإسلامية العلية. بهذا المعنى نجده يدافع عن الدولة دفاعاً يتجاوز الحماسة السياسية ليقترب من الحماسة الدينية. فيصبغ عليها معاني القداسة والأزلية الإلهية.
تتضح هذه الرؤية المؤدلجة في عدة مواضع منها "ولولا أن الأمة العثمانية أمة حية قوية عظيمة الشهامة والوطنية لكانت تلاشت اليوم بدسائس الدخلاء"، "وأن أغرب شيء في أحوال الدولة العلية وفي تاريخها يدهش أعداءها ويحير الكتاب الكارهين لها هو بقاءها حية بعد كل المصائب التي تساقطت عليها والبلايا التي نزلت بها"، ويصل به الإيمان بالدولة ليقول "أن بقاء الدولة العلية ضروري للنوع البشري وأن بقاء سلطانها سلامة أمم الغرب وأمم الشرق وأن الله جل شأنه أراد حفظ بني الإنسان من تدمير بعضهم البعض. ومن حروب دينية طويلة بحفظ سياج الدولة العلية وبقاء السلطنة العثمانية... وقد أحس الكثيرون في اوروبا من رجال السياسة ومن رجال الأقلام أن بقاء الدولة العلية أمر لازم للتوازن العام وأن زوالها لا قدر الله يكون مجلبة للأخطار أكبر الأخطار ومشعلة لنيران يمتد لهيبها بالأرض شرقاً وغربًا". من هذه العبارة نجد أن رؤية مصطفى كامل والذي يتضح في تأريخه لها تقترب من الرؤية الفاشية التي ارتبطت بصعود القوميات التي تضفي نوعاً من القداسة اللاتاريخية على الأمة والدولة وتحلها محل المقدس الديني. والمفارق هنا أن هذا الإيمان بالدولة إن كان مفهومًا من حيث ثقافة النخب السياسية في العالم العثماني، غير أنها لم تدرك أن النمط الذي تنتمي إليه هذه الدولة في تلاش وانحدار لصالح الدولة-القومية، وهو ما برهنت عليه السنوات القلائل التي أعقبت صدور هذا الكتاب ووفاة مصطفى كامل، فقد أعقب الحرب العالمية الأولى انهيار الإمبراطوريات الأسرية في روسيا "آل رومانوف"، والنمسا "الهابسبورج" وتركيا "آل عثمان"، وحلت محلها "دول قوميات" جاءت نتيجة انفجار الصراعات القومية وسيادة الدعوة إلى حق الشعوب في تقرير مصيرها كما أشرت عليه نقاط ويلسون الـ14.
يمكنا فهم هذه الأفكار المفرطة في ولائها للدولة العثمانية بالنظر إلى صعود فكرة الجامعة الإسلامية التي أطلقها السيد جمال الدين الأفغاني، وتبنى الدعوة إليها السلطان عبد الحميد الثاني خاصة بعد مؤتمر برلين 1878 وهزيمة الدولة العثمانية على يد روسيا، وأعقبها تكالب القوى الاستعمارية على ممتلكاتها في تونس 1881 ومصر 1882، وكذلك في ضوء أن النخبة المصرية كانت لازالت متعثمنة سواء في أصولها أو في ولائها، وبعضها لم يكن يرى تناقضًا بين التعاون مع البريطانيين والولاء للسلطان في الوقت نفسه.
هذا الاعتقاد جعل مصطفى كامل يحيد في تحليل عن مواضع الخلل البنيوية التي تعتري كيان الدولة العثمانية الذي ينتمي تاريخيا إلى عصور سابقة على العصر الحديث، وبالتالي رأى أن الخارج والمتمثل في في القوى الغربية الاستعمارية هو السبب في كل علل الدولة، أما الداخل فجوهره الذي يراه قويّاً وشامخاً لا يعتريه أي خلل ولا يمثل إصلاحه أي مصدر للوقوف في وجه هذا الخارج، وإن كان هناك ما يدعو للإصلاح في هذا الداخل إنما هو "الدخلاء" الذين تجندهم القوى الخارجية لإضعاف الدولة وإنهاكها والتسبب في خسائرها المتلاحقة " فإن الذين كانوا سبباً في هزيمة الدولة في حروب مختلفة هم الدخلاء والذين ساعدوا الدسائس الأجنبية هم الدخلاء" وهو يعرفهم بهؤلاء الذين "دخلوا جسم الدولة العلية من الأجانب رجالاً ونساء وغيروا أسماءهم بأسماء إسلامية وصاروا أقرب المقربين فعرضوا بالدولة وأطلعوا أعداءها على أسرارها"
كما أن هذا اليقين قد جعله يؤكد أن الخارج هو سبب أزمة الدولة العلية أثر تحليليّاً على تناول مصطفى كامل لتفاعل الدولة العثمانية مع القوى الأوروبية،ـ فهو لا يتناول التحولات التي لحقت بالدولة، ويتناول تفصيليّاً ما يعده دليل إدانة للغرب خاصة على المستوى الأخلاقي، ويورد الكثير من التقارير الصحفية والشهادات التي تدعم هذا الاعتقاد، وهو يبالغ في قوة العثمانيين المادية بما لم يكن له نتائج واضحة على أراضي الحروب التي خاضتها الدولة. ويبقى أن القراءة المبسطة لتطور الأزمات التي حاقت بالدولة العثمانية منذ الحرب مع الروسيا 1789 حتى الحرب اليونانية 1896 كانت تقول أن هذه الدولة إلى فناء وأنها في أغلب الأحوال لن تستطيع الدفاع عن ممتلكاتها أو أن تسكن حالة الثورات بداخلها، فضلا على أن تقدم الدعم لقضية مثل القضية المصرية. وبالتالي كان يجب أن يدفع هذا بالنخبة المصرية وبالأخص مصطفى كامل أن يبحث عن رابطة أخرى للشعب المصري غير الرابطة العثمانية التي أصيبت بالضعف والفتور بعد النجاح النسبي لحركة الاستقلال التي قادها محمد علي ومن بعده الخديو إسماعيل، ولم يكن فك الارتباط الرسمي لمصر بالدولة العثمانية مع نشوب الحرب العالمية الأولى وإعلان بريطانيا صاحبة السلطة الفعلية في مصر الحماية عليها في 1914 إلا نتيجة حتمية لتطور علاقة مصر بتركيا، وربما أشرت الميول الجديدة التي تبنتها النخبة المصرية بعد ثورة 1919 على هذا التطور بشكل أكبر، فقد رفضت هذه النخبة الارتباط بفكرة الخلافة أو الجامعة الإسلامية، وأخذت تبني دولة قومية على غرار الدول القوميات في أوروبا. وبهذا لا يصدق ما كان يؤكد عليه مصطفى كامل من الارتباط الأزلي بين الشعب المصري وتركيا.
يقول عبد الرحمن الرافعي في كتابه "مصطفى كامل باعث الوطنية المصرية" أن موقف مصطفى كامل من الدولة العثمانية كان من الأمور التي أخذها خصومه عليه، وصوره أنه كان مناصراً للسيادة العثمانية على مصر، وينفي الرافعي هذا ويقول أنه لم يكن إلا تكتيكًا يكسب به تركيا صاحبة السيادة الشرعية على مصر طبقاً لاتفاقية لندن 1840، ويحول دون اتفاقها مع بريطانيا على التنازل عن سيادتها الشرعية بما يدعم موقف الإنجليز في مصر وهو ما حصل في ديسمبر 1914، يقول "فموقف مصطفى كامل من السيادة العثمانية كان موقفاً قوميّاً حكيماً، وهو يشبه موقفه تجاه الامتيازات الأجنبية فلم يكن ينادي بإلغائها بل كان يقول باحترامها لكي لا يستعدي الدول والجاليات الأجنبية في الوقت الذي كان يجاهد فيه الاحتلال" ويورد في هذا الدفاع جزء من مقال له في اللواء على خلفية النزاع القائم بين إنجلترا ومصر حول طابا عام 1906 "أما دعواكم بأن الوطنيين المصريين يريدون الانتقال من استبداد إلى استعباد وأنهم يطلبون خروج الإنجليز من مصر ليدخلوا تحت حكم جديد، فهي دعوى لا يقبلها ذو لب ولا يسلم بها أحد من العقلاء؛ فإننا نطلب استقلال وطننا وحرية ديارنا ونتمسك بهذا المطلب إلى آخر لحظة من حياتنا"، ويقول في موضع آخر عام 1907 بمناسبة عيد تأسيس الدولة العثمانية "يستحيل علينا أن يطلب واحد منا مالكاً أجنبيّاً عنا، فنحن لا نود إلا أن نكون قوة محالفة للدولة العلية، ننصرها وتنصرنا ونعتز بها وتعتز بنا". يرسم هذا صورة لمصطفى كامل بصفته سياسيّاً براجماتياً رغم النبرة الأخلاقية المثالية التي تعتري كتاباته وأعماله على رأسها "المسألة الشرقية".
الاستعمار: تنازع الأخلاقي والاستراتيجي يطرح تأريخ مصطفى كامل للمسألة الشرقية تساؤلاً هامّاً عن موقفه من الاستعمار؛ فرغم أنه صنف هذا الكتاب ليثبت ضرورة ارتباط القضية المصرية بتركيا، وهو يدين الممارسات الغربية الاستعمارية أخلاقيّاً، غير أنه لا يرفض هذا الاستعمار بشكل مطلق أو من حيث المبدأ الأخلاقي، يتضح هذا من نقاشه للمسألة المصرية وسبل حلها أي الحصول على الاستقلال من وجهة نظره.
في نقاشه لتطور الأزمة بين حكومة الثورة العرابية والدول الأجنبية والمظاهرة البحرية التي اشترك فيها الأسطولان الفرنسي والبريطاني، يلقي باللوم على العرابيين لمواجهتهم الخديوي، غير أنه يلوم أيضاً الحكومة الفرنسية كونها أمرت الأسطول الفرنسي بالانسحاب إلى بورسعيد بعد مذبحة الإسكندرية، وهو ما أخلى السبيل أمام إنجلترا لتنفرد بالقرار والفعل في القضية المصرية يقول "وأن السياسة التي اتبعها المسيو فريسنية لسياسة خرقاء؛ فإنه أبى التداخل في مسألة مصر تداخلا عسكريّاً وعارض الدولة العلية في إرسال جنودها لمصر. وكانت نتيجة هذه السياسة تداخل إنكلترا وحدها وسقوط مصر في قبضتها". يوحي هذا للقارئ أن مصطفى كامل لم يكن ير التدخل الأجنبي يف حد ذاته شراً مادام جاء برضاء الدولة العلية وفي إطار التعاون الدولي، ولكن الخطر في انفراد بريطانيا بالتعامل مع القضية المصرية.
عند تحليله للوضع الدولي، في نهاية القرن التاسع عشر، وموقع القضية المصرية منه، يستبشر مصطفى كامل خيراً بصعود القوة الألمانية في عهدي بسمارك ثم القيصر (فليهلم الثاني) في أوروبا، ونشاط ألمانيا استعماريّاً لما في هذا من تحدٍ للقوة البريطانية في أوروبا وفي العالم، ومن ثم يصب هذا في مصلحة القضية المصرية، وهو ما يعني أنه لم يكن يرفض الاستعمار كمبدأ ومن حيث التحليل الأخلاقي الذي تعلو نبرته في الكتاب، بل يقبل به ما ادم سيضر استراتيجيّاً بمصلحة بريطانيا، ومن ثم يغلب هنا الاستراتيجية على المبدأ الأخلاقي. الأهم من هذا أنه يعول في نصرة القضية الوطنية على تفاعلات الخارج لا على الداخل، فإذا كان الخارج هو مصدر البلايا فهو مصدر الحلول، وقد عوّل مصطفى كامل لفترة طويلة على نصرة فرنسا للقضية المصرية غير أن فرنسا خذلت القضية بعد اتفاقها الودي مع بريطانيا عام 1904م، ومرة أخرى كانت ثورة 1919 الشعبية بداية الطريق لحل المسألة المصرية اعتمادًا على الداخل، وإن لم يكن مكتملاً.
يتضح هذا التشوش الأخلاقي لدى مصطفى كامل بصورة أوضح من تناوله لثورات الشعوب الأخرى الرازحة تحت السيطرة العثمانية، يصم مصطفى كامل هذه الثورات والتي شكلت في معظمها مادة للصراع بين القوى الأوروبية والدولة العثمانية ومن ثم حلقات في "المسألة الشرقية" بأنها عمليات تخريب وتهييج، ويصف المناضلين من أجل حريات بلادهعم وقومياتهم بأنهم "ثورويون" "خونة، منفذون لأوامر الخارج، "لذا ينبغي العداء والانتقام منهم بكل ما في الجهد والاستطاعة". مثل هذا الوصم بالعمالة والخيانة يطلقه على ثوار اليونان من الهيتري في الثورة الشهيرة التي اندلعت في الفترة (1821-1830م) ضد الدولة العثمانية، وكذلك على ثوار الأرمن، وثوار البلقان من السلاف، ويوضح أن هؤلاء كانوا على دائمًا على صلة بأعداء الدولة العثمانية ولم يكونوا إلا أدوات لها للنيل من الدولة، وبالتالي لا يتفهم توق هذه الشعوب للاستقلال الذاتي خاصة مع انفجار فكرة التحرر الوطني في القرن التاسع عشر بعد الثورة الفرنسية في أوروبا. الأخطر من هذا أنه يدينهم أخلاقيّاً ويورد الكثير من الصور الهمجية التي رسمت شكل نضالهم ضد الدولة، بالطبع ترتفع هذه الصورة السلبية المدانة في مواجهة الصورة القداسية التي سبق وأن رسمها للدولة العلية. وهو بهذا يزن الأمور بمكيالين عند دفاعه عن حق مصر في التحرر والاستقلال عن بريطانيا، فبينما يقر بحق مصر في الاستقلال عن بريطانيا ينفي هذا الحق ضمناً بقية الشعوب التي تقع تحت سيطرة العثمانيين، وكأن القضية تتعلق بشخص المحتل لا المبدأ نفسه. وبالتأكيد كان فكر مصطفى كامل حبيساً للاعتقاد بالدولة العثمانية كإطار جامع ولم يكن يؤمن بقومية غير القومية العثمانية. ويبقى أن هذا العمل لا يفهم إلا في إطار عصره ونخبته وأخذاً في الاعتبار النزق الشبابي الذي يقطر من أسلوب كتابته، والرغبة المحمومة التي تحدو مصطفى كامل للنضال عبر استحضار التاريخ وإعادة تفسيره بما يتلائم ومتطلبات اتجاهه السياسي وهدفه التحرري.